الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

عيلبون / بقلم باسل الاعرج و منى العمري


عيلبون



اربع مرات رفع " حاييم بطاطة " اصابعه الثلاثة , كل اصبع كان يشير الى حكم اعدام بحق احد شباب القرية  لن انسى هذا ما حييت .
جلوس في ساحة القرية امام الكنيسة التي لجأنا اليها , احتمينا باسوارها عل بيت الله يحمينا , كل القرية إجتمعت هناك بالاضافة لعائلة المواسي البدوية الذين كانوا ( يعزبون ) في اراضي القرية .
خاطب ذلك الضابط المسؤول عن كتيبة الهاجناه الخوري بصوت ساخط قائلا : اليس انت من لوح بمسدسه وقال بهذا المسدس سأحتل تل ابيب ؟ اذهب الى بيتك وكنيستك لم يحميك الا ملابسك .
واردف يقول : اريد الان ان تسلموني البرن ( رشاش الي ) الذي في القرية والا سنقوم باعدام مخاتير القرية
كان اهل القرية قد جمعوا المالواشتروا مدفعا رشاشا يدعى برين ليشكل نوعا من الردع مقابل اسلحة اليهود , وكان قد اشترى بعض رجال القرية البنادق , كل ثلاثة اشتركوا في ثمن بندقية .
وقف حاييم وبدأ يشير باصبعه ويختار , انت انت وانت وانت , اختار 17 شابا من القرية , يقتادونهم ثلاثا ثلاثا بحسب اشارات حاييم , يعود الجنود مبتسمين يتضاحكون بعد ان نسمع صوت الرصاص , وزعوا الشباب في كل اطراف القرية واعدموهم , قتلوا 12 شاب من القرية وقتلوا 15 من البدو من عشيرة المواسي,بعد سنين طوال عرفنا سبب حقدهم هذا , كان اثنان من الصهاينة المقاتلين قد قتلوا في معركة بالقرب من عيلبون وكانت اخت احدهم في القوة المهاجمة للقرية وقد حرضتهم على الثار لاخيها فكان المقابل 27 شابا عربيا.
الشباب الخمسة الاخرين وضعوهم امام القافلة العسكرية كدروع بشرية وامروا اهل عيلبون بالمسير الى قرية المغار , في قرية المغار امرهم جنود اخرين بالاستمرار مشيا الى الشمال حيث لبنان .
استقر اهالي عيلبون ومن يساكنهم من البدو في مخيم المية مية .
اقترب مني ذلك الجندي وسالني:  ما اسمك ؟
كنت ما ازال في الحادي والعشرين من عمري اجبته : بطرس شكري الياس مته .
قال لي : تحرك
                                                                                 : لست قادرا على المشي انا مصاب .اجبته
فقال لي : اذهب الى البيت اذا .
......
.
وصلنا الى المغار , كان حشد كبير من الناس هناك ,امرنا الجنود ان نكمل طريقنا شمالا , المغار لم ترحل فقد حمى اهلها بعض رجال الدين الدروز ومنعوا ترحيل اهلها ورضخ الصهاينة , وصلنا صيدا ونزلنا في مخيم يدعى المية مية .
الجو بارد جدا جدا هنا , نحن في اخر الخريف ونقبل على الشتاء , لا اغطية ولا متاع معنا , اقترح بعض الاهالي ان يعود احدهم الى القرية لكي يجلب بعضا من المتاع .
وقفت انا فارس ذيب المواسي , اسرجت حصاني وتوجهت جنوبا , مررت من القرى المهجرة كانت ملامح الحياة ما تزال تنبض فيها , تجنبت الطرق الاعتيادية لكي لا اصادف احدا من اليهود , وصلت عيلبون اخيرا .
وصلت الى القرية كان قد بقي فيها بعض كبار السن والخوري وشابان جريحان , ذهبت مباشرة الى بيت الخوري المطل على ساحة القرية التي اصبحت تعرف فيما بعد بساحة الشهداء , استقبلني واطمئن على الاخبار والناس , وقام باعطائي رسالة وقال لي :
" اعطيها لابني ولابن اخي في بيروت وكن حريصا عليها "
سالته : واذا اسرت في طريق عودتي ووقعت في يد اليهود يا ابونا ؟.
اجاب : لا تقلق فقد كتبتها بلغة لا يعرفها الا انا وابني .
وضعت الرسالة بين اكوام المتاع على ظهر الحصان وعدت الى صيدا .
........
ما زال الالم يقتلني , الرصاصة التي في فخذي ما زالت مستقرة في مكانها , كيفية اختيار الضحايا تزعجني عاملونا وكاننا لسنا بشرا , منظر ذلك الطفل الذي لم يتجاوز السنتين وهو مجبر على رفع يديه مثل باقي اهل القرية يؤرقني .
وجوه الشهداء واسمائهم تطاردني
نعيم , بديع , فؤاد , جريس , فضل , محمد , عازر , حنا , ميلاد , سمعان , عبد الله , رجا , زكي , وميخائيل , لم يكونوا ارقاما كانوا عائلات وقصص عشق وبيوت وتاريخ ومستقبل , ابتسامات واحزان  , امل وخيبات , كان لهم  زوجات واطفال , كتب مدرسية , ارض تنتظر من يداعبها لتفشي له اسرارها , كان لهم حيوانات تالفهم وتنتظر قدومهم ليطعموها , كان لهم حبيبات وقبلات مسروقة خفية عن الله والناس , كان لهم موائد يعمرها الضيوف , كان لهم اغانيهم وتراتيلهم وتلاواتهم , لكن لم يبقى الا المراثي .
 وفد من الامم المتحدة والصليب الاحمر كانوا قد مرواصدفةوقاموا بمعاينة الجثث وأرسلوا بدورهم ايضا رسالة للأمم المتحدة يصفون الوضع في عيلبون .. طلب مني الخوري بعدها ان ندفن الشهداء , دفنتهم انا وبعض الشباب من القرى المجاورة .
.......
تنهد قليلا ثم وقف وقال بعد ان سلمته الرسالة وقد قرأها :
ابي الخوري مرقص يطلب مني ان ارسل رسائل عدة الى كافة الجهات ومنها الامم المتحدة , احدثهم عن مجزرة القرية وطردهم لنا , ويطلب مني ان اطلب منهم الضغط على الصهاينة لنعود الى عيلبون , ويحذرني بأن لا اقع في فخ طائفيتهم التي يريدون اسقاطها علينا , يأمرني بأن لا نعود الا وعائلة المواسي معنا , فلسنا طوائف انما نحن مجتمع واحد كالبنيان المرصوص فاياكم وخدعهم , فان لم يعود كل اهل القرية ومن ساكنهم فلا تعود .
بدأابن الخوريوابن عمه في ارسال الرسائل الى كل الجهات طالبين بأن يضغطوا على الصهاينة لكي يعودوا الى اراضيهم .
.......
كان الوقت قد تجاوز العصر عندما ارسل لي الخوري ان ازوره في بيته .
عندما وصلت كان كل الباقيين في القرية قد اجتمعوا , قال الخوري : لقد استطعنا ان نجبر الصهاينة على القبول بعودة اهالي عيلبون الى القرية , حملت احدهممن دير حنا رسالة الى لبنان ليوصلها الى الاهل هناك بأن يعودوا الا انه عاد بعد يومين وبعد ان اخذ 40 جنيه ليقول لي انه لم يجد احدا من عيلبون , ما العمل ؟
علمت بأنه لا بد لاحدنا ان يفعل هذا , تشجعت وقلت : انا سأذهب يا ابونا .
قال لي : يا بطرس انت ما زلت مصابا , وهل تعرف الطريق الى لبنان ؟
اجبته : سأوكلها الى الرب , علما اني لم اتجاوز قرية المغار في ذلك الوقت ابدا .
اعددت عدتي وتجهزت قبل طلوع الفجر بساعة وانطلقت شمالا , قابلت بعضا من الناس فسألتهم الى اين هم متوجهين , اخبروني ان وجهتهم هي نفس وجهتي , فرافقتهم الى ان وصلت الى مخيم المية مية .
كان لقاء حميميا , الاسئلة تتوالى وتتكاثر , كل يريد ان يطمئن على الاخبار وعلى اقاربهم وعلى اراضيهم .
........
ران  الصمت بعد ان قال لهم ابن الخوري بأن يصمتوا لكي نسمع ما يحمل من اخبار , وقفت وما ان قلت " سمح لنا بالعودة " حتى دب الفرح والبكاء وصرخات الشكر والمناجاة لكل ما يؤمنون به .
قطع ذلك المشهد قول احد كبار السن " بس يا جماعة في مشكلة " , سكت الجميع لكي يكمل حديثه فقال :
عائلة المواسي لها نصيب من دم الصهاينة وهم من المغضوب عليهم واعمامك الاثنين يا فارس من المطلوبين للصهاينة , ولن نعود الا جميعا , لن نترك احدا خلفنا من القرية , وهناك منهم اثنين مطلوبين للصهاينة , فماذا سنفعل ؟
الحيرة بدت على محيا الجميع الى ان قال احدهم مازحا :
وشو يعني ؟ هو اليهود اللي ولدوهم وحافظين اشكالهم ؟ القصة بسيطة بنغير بس اسم عيلة المواسي لاسم اخر .
وقف فارس ذيب المواسيوقال : نعم صحيح , سنغير اسم العائلة الى شواهدة .
وهذا ما حدث
.......
بدات العودة , في الصباح التالي انطلق بطرس مع 17 فرد من القرية عائدا الى عيلبون , وصلوا الى مدخل القرية الشرقي , انسل بطرس متوجها الى الخوري واخبره بما حدث .
بعد عدة ايام انطلق باقي اهل القرية في رحلة العودة من صيدا الى عيلبون , كل اهالي القرية في قافلة العودة ويرافقهم البدو من المواسي , وصلوا الى مداخل القرية بدأ حاجز عسكري بالتأكد من هوياتهم , فقد عرفوا احد اعمام فارسوقال الجندي : ومنذ متى كان هناك مسلمون في عيلبون ؟ .
احد شباب القرية لم يمهله كثيرا حتى اجابه : ومنذ متى الاغراب يقسمون بيننا الورثة ؟ ومن كلفك لتسال عن دين فلان وعلنتان ؟ هذا اسلوب كل الغزاة " فرق تسد " تريدون تقسيمنا لمسلمين ومسيحيين ودروز وبدو وارمن وشكرس ووو .
اجاب الضابط : انتم تعودون هم لا .
رد عليه الشاب بحدة وقد اجتمعت كل القافلة واجتمع اهل القرية ممن عادوا وجاء الخوري مرقص : لا يوجد نحن وهم , نحن نحن وكفى , فاما ان نعود نحن او لا نعود .
ضج الجمع , الصيحات تتعالى , الكل يؤكد على كلام الشاب , خاف الجند , خمدت فتنتهم الطائفية . وعاد الكل .
عاد الكل ليجدوا ان بيوتهم قد نهبت وحيواناتهم قد سرقت , ومزروعاتهم قد سلبت , لم يطل الامر ابدا حتى جاء سكان القرى المحيطة بالعونة بالطعام والغذاء والملابس جاؤوا من دير حنا وعرابة , كخلية النحل الكل يعمل لاعادة بناء ما تهدم من قصف البيوت وتفجيرها , الكل يعمل لاعادة زرع المزروعات واستنهاض الارض وخيراتها .
خرج في 30/10/1948  ( 670 )شخص من سكان عيلبون متجهين شمالا , بعد سبعين يوما وعلى اثر موقف الخوري وابنه واهالي القرية عاد الى عيلبون والقرى المحيطة اكثر من 4000 فلسطيني .
https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=Ie-EzP1f2uY


منى عمري
باسل الاعرج 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق